د.الشفيع خضر سعيد: السودان: نفير الكرامة

المصدر : القدس العربي
الكاتب : د.الشفيع خضر سعيد
عدد القراء : 286
تاريخ النشر : 2019-08-05
من مدينة «بوخم» الألمانية، كتب لي الصديق المثقف والأستاذ الجامعي السوداني، دكتور شمس الدين كيّال، طارحاً مبادرة هامة وطالباً مني نشرها في هذا الحيّز المخصص لمقالاتي، متمنياً أن تجد نقاشاً جاداً يسهم في بلورة الفكرة وتجسيدها في مشروع ملموس يعزز جهود بناء دولة الحرية والسلام والعدالة في السودان.
يقول دكتور كيال، اتسمت ثورة الشعب السوداني المنتصرة بالمشاركة الواسعة جداً من سودانيي المهجر واللجوء والاغتراب، بالدعم المادي الضخم، أو بالمواكب والتظاهرات التي عمت معظم مدن العالم، أو بعكس تطورات الحراك الثوري للمجتمع العالمي عبر البرلمانات والحكومات والأحزاب السياسية، والمنظمات الأممية، ومنظمات حقوق الإنسان…الخ.
وإذا كانت هذه المشاركة قد ساهمت في صيرورة الثورة خلال الثلاثين عاماً الماضية، حتى اندلاعها فانتصارها، فإن المطلوب الآن من سودانيي الخارج الانتقال من مرحلة دعم التعبئة الثورية إلى مرحلة الشروع في خلق عمل مؤسسي لدعم تحقيق أهداف الثورة على أرض الواقع. فثورتنا انتصرت مشرعة آمال إنقاذ وطننا من الانهيار السياسي، والإفلاس الاقتصادي، ودخوله في حالة من تسول الدولة وفقدان للكرامة. وإذا أردنا حقاً منع سقوط وطننا في الهاوية، ومنع خطر تفتته وزواله، فعلينا نحن سودانيي الخارج أن نسهم عملياً في معركة إنقاذه.
وأحد أشكال المساهمة التي يمكننا إنفاذها بنجاح، هي ما أسميته مبادرة «نفير الكرامة»، أي توفير أكبر دعم مادي ممكن لتحقيق أهداف ثورتنا المجيدة. وهذا الدعم المادي يمكن أن يتحقق بعدة أشكال. فمثلاً، يمكننا توفير الدعم النقدي المباشر من سودانيي الخارج. فإذا أمكن الوصول إلى نصف عدد السودانيين في بلدان المهجر والاغتراب واللجوء، الذين تقدر أعدادهم بخمسة ملايين تقريباً، فبأقل مساهمة من كل فرد نستطيع جمع مبلغ من المال يسهم حقاً في دعم ميزانية الفترة الانتقالية. أيضاً، يمكننا توفير الدعم المالي من مؤسسات ومنظمات التنمية والتمويل العالمية أو في بلدان العالم الأول، أو بالعمل على إعفاء ديون السودان الخارجية، أو عبر مؤسسات التبادل العلمي، أو العون الإنساني…إلخ. ومن زاوية أخرى، فإن مبادرة نفير الكرامة ستضاعف الزخم الثوري وازدياد الوعي بالمسؤولية الوطنية، وتعمق الإحساس بالانتماء للوطن، رغم الغربة لسنوات طويلة، وكل هذا سيحرك دولاب المشاركة الشعبية لينطلق بوتيرة عالية، مما يساعد على رفع العائد المادي بما لا يستهان به.
وإضافة إلى العائد المادي، فإن المبادرة يمكن أن تحقق آثاراً إيجابية على أصعدة أخرى. فنحن عند تحقيقينا لمشروع سوداني في الخارج لدعم بلدنا، نرسل للعالم رسالة صادقة عن مدى عمق وأصالة الثورة السودانية، ومدى إحساسنا بالمسؤولية تجاه وطننا، واستعدادنا للاعتماد على ذاتنا من أجل بناء دولتنا، حين ذلك سنعمق تضامن شعوب العالم مع ثورتنا المجيدة. والمبادرة قد تسهم في عملية الانصهار بين شتى أهل السودان، وتسريع صيرورة «المواطنة السودانية» التي انتكست تحت سياسات قمع التنوع والتهميش الإثني والجهوي.
يعتمد نجاح المبادرة على عدة شروط وقواعد، منها وضوح الأهداف التي تستطيع أن تلف حولها أكبر عدد من الداعمين، ووجود هيكل واضح للمبادرة قائم على مبدأ الشفافية، ومبدأ إعطاء الشخص المتبرع إمكانية اختيار الجهة، أو المجالات، التي يريد دعمها بماله، مع ضرورة تحديد هذه المجالات حسب ما تقرره ميزانية الدولة الرسمية، مثلاً التعليم الأساسي، الصحة والرعاية الاجتماعية، الطاقة والبيئة، الشباب والرياضة….إلخ، ومع وجوب إدراج وارد الدعم ضمن مصادر الدخل في ميزانية الدولة. والشفافية تقتضي وجود قنوات رسمية ذات مصداقية عالية تُمكن الداعم من متابعة وصول دعمه وأوجه صرفه، إضافة إلى التقيد بالقواعد المحاسبية المعروفة. تحت اسم «نفير الكرامة» يتم فتح حساب بالبنك المركزي يتبع لوزارة المالية، تُودع فيه تحويلات الداعمين، ودورياً تعلن الوزارة، عبر الإعلام الرسمي، عن مستوى المشاركة وبالأرقام.
مبادرة «نفير الكرامة» قد تكون نواة لخلق منبر لسودانيي الخارج، مثلاً مجلس مصغّر تمثل فيه كل قارات العالم، يتابع سير عملية الدعم مع الجهات المختصة داخل السودان، ويمكّن سودانيي الخارج من المشاركة في سياسات الدولة عامة، وبما يخص وضعهم داخل وخارج السودان. وأعتقد أن الجهة المؤهلة لتبني هذا المشروع داخل السودان هي تجمع المهنيين السودانيين، القائد والمنظم للحراك الثوري، والذي يمثل قوى أساسية في هيكلة الدولة، ويضم كفاءات مؤهلة يمكنها أن تتولى تأسيس هذا المشروع الوطني الكبير مع السودانيين في بلدان المهجر واللجوء والاغتراب. ومن هنا أناشد تجمع المهنيين السودانيين بتبني مشروع «نفير الكرامة»، ليكون منطلقاً أو نواة لتنظيم وإدارة حملات الدعم المرغوب فيه، واستغلاله في مصارفه المناسبة. وأقترح أن تكون ضربة البداية تنظيم ورشة عمل تقوم بمناقشة وبلورة الأفكار حول هذه المبادرة، وصبها في مقترحات محددة حول كيفية تنظيم هذا العمل وتجسيده على أرض الواقع.
وأنا أطالع رسالة الصديق كيّال، مرّت بخاطري ذكرى اجتماع لهيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في أواخر تسعينيات القرن الماضي في العاصمة الإريترية أسمرا، خاطبه الأستاذ الأمين محمد سعيد، الأمين العام للجبهة الشعبية الإريترية عاكساً تجربة دعم الثورة الإريترية من الإرتريين في الخارج، موضحاً كيفية تنظيم هذا الدعم، حيث إن كل الإرتريين العاملين في الخارج من مهنيين وموظفين وسائقي عربات التاكسي والعاملات في المنازل…إلخ، كانوا يساهمون في دعم الثورة الإريترية وفق أساليب خلاقة ومبدعة ترسمها منابر تنظيمية في الخارج. فمثلاً، سائقو عربات التاكسي كانوا يجنبون أجرة أول مشوار لهم يومياً لصالح صندوق دعم الثورة، وهكذا تفعل عاملات المنازل وسائر الإرتريين العاملين في الخارج. والأموال التي كانت تجمع يومياً ترسل أولاً بأول إلى الثوار في الميدان، ولاحقاً لدعم بناء إرتريا المستقلة، عبر طرق محاسبية شفافة تخضع للمراقبة الدقيقة من منابر الدافعين والجهات المستلمة. وإن هذا الدعم ساعد في صمود استقلالية القرار الإريتري، أثناء الثورة وبعد انتصارها.
الكلمات المفتاحية
د.الشفيع خضر سعيد